top of page

الذهب المنسي في العالم العربي: كيف نُفعل قوة المؤشرات الجغرافية


" هذه التين لا ينمو إلا هنا"، قال الفلاح العجوز، ويداه ملطختان بتراب الأرض، وعيناه تلمعان بفخر."لا يوجد طعم مثلها في أي مكان آخر."

لقد سمعت هذه الجملة بلغات كثيرة، من قرى الجبال في تونس إلى وديان لبنان.وفي كل مرة، تلامس شيئًا عميقًا بداخلي.

لأن الأمر ليس مجرد تينة.بل هو عن الهوية.عن الجذور.عن أسلوب حياة توارثته الأجيال، وعن قوة هادئة تحافظ عليه في صمت.

أرضنا في العالم العربي مليئة بالعجائب: أعشاب نادرة، زيوت عتيقة، صناعات يدوية، ونكهات تحمل في طياتها ذاكرة قرون طويلة.لكن كثيرًا ما تُنسى هذه الكنوز، أو تُقلَّد، أو تُباع دون اعتراف أو تقدير.وأحيانًا تختفي، لا لأنها فقدت قيمتها، بل لأننا نسينا أن نحميها.


ree

وهناك وسيلة لتغيير ذلك.وتبدأ بشيء يُسمى المؤشرات الجغرافية.


  1. ما هي المؤشرات الجغرافية؟

المؤشر الجغرافي هو نوع من الحماية بموجب حقوق الملكية الفكرية.كأنك تمنح المنتج جواز سفر يقول:"أنا أنتمي إلى هذا المكان – ولا يمكن أن أُنتَج في أي مكان آخر."

يربط المنتج بالأرض، بالناس، وبالقصة.ليس مجرد ملصق، بل وعد.وعد بأن هذا المنتج صُنع بعناية، بتقاليد ومعرفة محلية، وأنه لا يمكن تكراره أو تقليده حقًا في مكان آخر.

بلدان كثيرة حول العالم تستخدم المؤشرات الجغرافية لحماية منتجاتها المحلية.في فرنسا، إنها نبيذ الشمبانيا.في سويسرا، جبنة الغرويير.في الهند، شاي دارجيلينغ.في الكاميرون، فلفل بنجا.هذه المنتجات أصبحت مشهورة عالميًا، ولا يُسمح لأحد بتقليدها.

فلماذا لا نفعل الشيء نفسه لتراثنا؟


  1. أمثلة رائعة من منطقتنا

بعض المناطق في العالم العربي بدأت بالفعل في هذا المسار، وتقدم قصصها دروسًا ملهمة، حتى وإن كانت النتائج الملموسة لا تزال في بدايتها.

✨ تين دجَبّة – تونس

تنمو هذه التينة الفريدة في شمال تونس، في بلدة صغيرة محاطة بالجبال. ومع حصولها على حماية المؤشر الجغرافي، تمكن الفلاحون المحليون من بيعها بأسعار أعلى، وبدأ العالم بالتعرف على اسم "دجَبّة". لم تعد مجرد ثمرة، بل قطعة من الوطن.

✨ زعفران تالوين – المغرب

تزرعه النساء في قرى نائية، ويُعرف بلونه القوي وعطره الغني. ومع الحماية، أصبح للمنتج والنساء اللواتي يصنعنه مكانة أكبر. إنها ليست مجرد توابل، بل مستقبل كامل.

✨ تمر دقلة نور – الجزائر

الجميع يعرف التمر كفاكهة حلوة، لكن "دقلة نور" المزروعة تحت شمس بسكرة، برعاية وحرص، أكثر من مجرد تمر. بحمايتها كمؤشر جغرافي، أصبحت تُعترف بها كثروة ثقافية ورمز من رموز التراث الجزائري.

هذه ليست منتجات فاخرة.بل معجزات يومية، وُلدت من العمل الشاق، والرعاية، وروح المجتمع.ومع الحماية، تصبح رموزًا فخورة لهويتنا.

  1. تخيلوا ماذا يمكننا أن نحمي بعد ذلك

لا تزال هناك قصص لم تُروَ، تنتظر نور الحماية:

  • زيت الزيتون من الكورة – لبنان: يُحصد من بساتين مشمسة في أقدم مناطق زراعة الزيتون، ويُعصر بطريقة تقليدية تعكس التربة الغنية والمناخ المتوسطي وخبرة الأجيال.

  • قهوة المخا اليمنية: كانت يومًا الأشهر في العالم، وما تزال تُزرع يدويًا على مصاطب الجبال.

  • أرز العنبر – العراق: يُزرع في سهول الفرات الخصبة، برائحته المميزة وحباته الناعمة. أكثر من غذاء، إنه رمز للتراث العراقي.

  • تمور السعودية: ناضجة تحت شمس الصحراء، تُجنى بأيادٍ توارثت الحرفة، وتحمل كل تمرة قصة وتاريخ.

  • عسل حتا – الإمارات: ينتجه نحل يعيش في واحة جبلية، بنكهة زهور فريدة من نوعها، ومعرفة متوارثة في تربية النحل.

  • نسج سعف النخيل في عُمان: يصنع الحرفيون في عُمان السلال والحُصُر من سعف النخيل باستخدام تقنية تقليدية " الخوص"، وهي حرفة عريقة متجذّرة في المكان والثقافة والمجتمع.


كل منتج منها يحمل شيئًا نادرًا:طَعم ذاكرة.إحساس بالمكان.مستقبل يستحق الحماية.

  1. لماذا المؤشرات الجغرافية مهمة؟

ليست حماية للمنتجات فقط.بل حماية للناس، ولأسلوب حياتهم.


  •  تحافظ على التقاليد

عندما يُحمى المنتج، تصبح الطريقة التقليدية لصنعه جزءًا من القانون. أي أن المهارات التي علمها الأجداد لا تضيع.

  •  تدعم صغار المنتجين

مع المؤشر الجغرافي، يمكن للمنتجين المحليين بيع منتجاتهم بأسعار أفضل، والوصول إلى أسواق جديدة، ونيل التقدير الذي يستحقونه.

  •  تمنح المجتمعات فخرًا

عندما يرى الناس منتجاتهم تحتفل بها الأسواق العالمية، يشعرون بالفخر، وينعكس ذلك على قوة وتماسك المجتمع.

  •  تثبت السكان في أراضيهم

عندما تجلب المنتجات المحلية قيمة اقتصادية، لا يضطر الشباب لمغادرة قراهم، بل يصنعون الفرص من داخل مجتمعاتهم.

  • تمنع التقليد

فقط المنتجون الحقيقيون في المكان الحقيقي يحق لهم استخدام الاسم. وهذا يمنع سرقة العمل أو تشويه السمعة.

في عالم الإنتاج الصناعي السريع، تحمي المؤشرات الجغرافية ما هو صادق، وإنساني، وأصيل.

  1. رحلتي مع المؤشرات الجغرافية

بدأت رحلتي مع المؤشرات الجغرافية عام 2005، في مشروع لبناني سويسري، أخذني إلى كل زاوية من لبنان.التقيت بمنتجي الجبن، زيت الزيتون، السكاكين، الصابون، التفاح، وماء الورد وغيرها. جلست معهم في مطابخهم، استمعت لقصصهم، وتذوقت ما صنعته أيديهم.

لم يطلق أحد منهم على نفسه "رائد أعمال".بل سمّوا أنفسهم "حرّاس".حرّاس للتقاليد وللأرض.

ثم تجولت في بساتين النخيل بالجزائر.تذوقت التين في تونس.اكتشفت حِرفة خشب العرعار في المغرب.استمتعت بعسل طبيعي في الكاميرون.تحدثت مع صُنّاع "كيليشي" في النيجر، اللحم المجفف التقليدي، الذي يُعدّ بخبرة متوارثة.

في كل مكان، وجدت شيئًا مشتركًا:هؤلاء الأشخاص لا يصنعون منتجات فقط.بل يحملون إرثًا – بهدوء، وتواضع، وحب.

لكنني رأيت الخطر أيضًا:بدون حماية، قد يضيع هذا الإرث، لأننا لم نُعطه القيمة التي يستحقها.


  1. الآن هو الوقت المناسب

العالم العربي غني بجماله الطبيعي، ومعرفته العتيقة، وتقاليده الصادقة.لكن لتحويل كل ذلك إلى قوة حقيقية، نحتاج إلى شيء واحد: الوعي.

علينا أن نتوقف عن اعتبار التراث شيئًا للمتاحف أو الذكريات فقط.إنه قوة.إنه هوية.إنه مستقبل يكرّم الماضي.

الحكومات، المجتمعات، المنظمات غير الحكومية، الهيئات، والخبراء، جميعهم لهم دور.لكن البداية بسيطة:أن نرى الكنز فيما نملكه بالفعل.

فلنحمِه.فلنروّج له.فلنورثه — بفخر، وبحب، وبرؤية. 


Comments


bottom of page